من أبرز الصور التي وثقت مجزرة حلبجة، يظهر فيها عمر خاور محتضناً أحد ابنيه التوأم- أرشفية

رغم أن صورته بعد مفارقته الحياة وهو يحتضن ابنه أصبحت رمزاً للإبادة الجماعية التي تعرضت لها مدينة حلبجة بالأسلحة الكيميائية عام 1988، إلا أن قصة عمر خاور لا تزال غير معروفة حتى الآن.

وتمكن موقع “ارفع صوتك” بعد محاولات عديدة من التوصل إلى أحد أفراد عائلة خاور، ولقي معظمهم حتفهم في القصف الكيمياوي على يد النظام الأسبق، ليتحدث عن تفاصيل حياة عمر وعائلته في حلبجة قبل القصف وما حل بهم أثناءه.

صورة حديثة لبرهان غريب، الناجي من المجزرة، الشاهد على مقتل عائلته

يقول برهان غريب وهو نجل شقيق عمر خاور لـ”ارفع صوتك”: “كان عمي عمر يبلغ ٥٥ عاما حين تعرضت حلبجة للقصف الكيمياوي، وكان يعمل حارساً في روضة أطفال بالمدينة مساءً، وفي النهار يعمل عجاناً في أحدى مخابزها”.

ويضيف “بعد انتهاء عمله ليلاً، يعود إلى عائلته المكونة من زوجته و8 بنات وولدين توأمين هما  أحمد ومحمد، وقبل أن يرزق بهما كان له ولد آخر لكنه توفي قبل بلوغه العامين”.

ويشير برهان إلى أن عمه وعائلته لجأوا كغيرهم من سكان حلبجة إلى قبو بيتهم في يوم 16 مارس/آذار  1988 للاختباء من القصف الكيمياوي الكثيف، لأن القصف منعهم في بادئ الأمر من الفرار إلى خارج المدينة، خاصة أن عدد أفراد العائلة كان كبيراً.

لكن مع استمرار القصف وكثافته قرر عمي الخروج وتمكن من الحصول على جرار زراعي بمقطورة، كان لأحد أقربائنا، لنقل عائلته خارج حلبجة. ركبت عائلة عمي مع عائلة أخرى على المقطورة وعددهم معاً 24 فردا، لينطلق بهم الجرار خارج المدينة، فيما حمل هو أحد شقيّ التوأم لأن المقطورة لم تسعهما وترك الأخر برفقة زوجته”، يتابع برهان.

ويقول “اتفق عمّي مع بقية العائلة أنه سيلحق بهم مشياً على قدميه، وسيلتقيهم في هاية الحي الذي كان يسكنه، لكن الجرار الذي حمل العائلة تعرض للقصف بالأسلحة الكيمياوية بعد انطلاقه بمسافة قصيرة، وقُتل كل من كان عليه، أما عمي وابنه فقُتلا قبل الوصول لنهاية الحي، إثر اختناقهما بالغازات السامة، وسقطا على الأرض أمام أحد البيوت”.

ويؤكد برهان الذي تعرض هو ومن تبقى من أفراد عائلته للإصابة جراء الهجوم الكيميائي، أن 36 شخصاً من أفراد عائلته وأقاربه، بينهم عمه عمر وعائلته، قتلوا في القصف.

وتشير إحصائيات رسمية صادرة عن جمعية “ضحايا القصف الكيميائي” في حلبجة، إلى أن قصف المدينة بالأسلحة الكيميائية أسفر عن مقتل أكثر من خمسة آلاف مدني كردي، وإصابة أكثر من عشرة آلاف آخرين، فيما تبلغ أعداد المصابين المسجلين الذين يعانون من آثار القصف حتى الآن في كردستان 972 مصابا، توفي منهم نحو 220 جراء آثار الإصابة منذ عام 2003 وحتى الآن.

وبالعودة إلى قصة برهان الذي كان بعمر الـ24 وقت المجزرة، يخبرنا أن علاقته وعائلته مع عمّه عمر لم تكن علاقة عم مع أبناء شقيقه فحسب، بل كان يمثل أباً بالنسبة لهم، تتوجه إليه العائلة دائما في إدارة أمورها.

لذلك كان مرافقاً لعمه في معظم الأوقات حتى في اليوم الذي تعرضت حلبجة للقصف، حيث كانا معا في سوق المدينة صباحاً قبل بدء القصف، ثم افترقا، دون أن يعلم كلاهما أن ذلك الصباح كان بمثابة الوداع الأخير.

صورة تظهر عمر خاور مع أحد أصدقائه، حياً، قبل أن يُقتل في القصف الكيميائي

يقول برهان لـ”ارفع صوتك”: “كنت برفقة عمي في الليلة التي سبقت القصف أيضاً، والأوضاع داخل حلبجة لم تكن مستقرة، حيث انسحبت القوات العراقية منها مساءً. لذا بدا الناس متخوفين ممن خطر محتمل. سألت عمي في تلك الليلة أين ينوي أن يذهب بأطفاله؟ فأبلغني بأن لا مكان للجوء إليه، فالقرى المحيطة بهم هجّرت”.

ويتذكر كلمات عمّه عمر تماماً “سنبقى في البيت وإن متنا سنموت معاً”.

في اليوم التالي، تحديداً الساعة 11:00 صباحاً، بدأت الطائرات الحربية العراقية والمدفعية بقصف المدينة، واستمر ذلك حتى الساعة الرابعة والنصف مساءً، حيث أمطرت الطائرات والمدفعية حلبجة بوابل من القنابل وأغرقتها في الغازات السامة ذات الدخان الأسود والأبيض، حسب ما يقول برهان.

ويضيف أن “أصوات سقوط القنابل كان مختلفاً عن سابقه في أول ساعات النهار، لكن الأهالي لم يشعروا أنها قنابل كيمياوية إلا بعد استنشاقهم الغازات والاختناق بها، مثل غاز الأعصاب”.

“كانوا يتساقطون واحداً تلو الآخر وبشكل كثيف جدا أثناء محاولتهم الخروج من المدينة، حتى من بقي داخل قبو بيته فارق الحياة ولم ينج سوى عدد قليل جدا من الأهالي، وامتلأت الشوارع والأزقة بآلاف الجثث المتكومة فوق بعضها البعض، حتى الحيوانات لم تنج بسبب كثافة الأسلحة الكيمياوية المستخدمة”، يتابع برهان.

بعض بنات عمر خاور، قتلن أيضاً في المجزرة، أثناء هروب العائلة على متن جرار زراعي

ويبيّن “رغم إصابتنا إلا أنني وعدد من أفراد عائلتنا تمكنا من النجاة مع آخرين، وبعد توقف القصف مساءً حاولت العودة إلى المدنية لمعرفة مصير من تبقى من عائلتنا فيها، خاصة عمي وعائلته، لكنني لم أستطع الدخول بسبب كثافة الغازات فتوجهت رغم إصابتي إلى منطقة عبابيلي التابعة لحلبجة، وهناك وصلني خبر مقتل عمي وعائلته داخل حلبجة”.

ولم يتمكن برهان من إيجاد جثة عمه وابنه منذ ذلك الحين، ولا يعلم أين دفنت الجثة، لكنه وجد جثث أطفاله وزوجته الذين كانوا معاً على متن الجرار بعد القصف، وتم دفنهم في حلبجة لاحقاً.

ويقول برهان: “رغم الأضرار التي لحقت بنا، إلا أننا كأهالي حلبجة بشكل عام وعائلة عمي عمر بشكل خاص، مهمشون، ولم نحصل على أي تعويضات أو اهتمام من قبل الحكومة العراقية، حتى أننا لم نبلغ بحضور جلسات محاكمة رئيس النظام السابق صدام حسين وابن عمه علي حسن المجيد ورموز النظام السابق بعد عام 2003.. م يلتفت لنا أحد”.

ويصف واصفا ما قدم لحلبجة من خدمات حتى الآن بأنها لا تناسب ولا تتوافق مع حجم الإبادة الجماعية التي تعرضت لها، على حد تعبيره.

إحدى بنات عمر خاور، قتلت أيضاً في المجزرة، أثناء هروب العائلة على متن جرار زراعي